الباب الأول لبحوث أكاديمية في الشريعة الإسلامية للأسواق المالية: الأسواق المالية وأنواعها والأدوات المتداولة فيها

أنواع الأسواق المالية

الفصل الأول

تعريف الأسواق المالية

المبحث الأول: تعريف الأسواق المالية

يحسن قبل تعريف السوق المالية توضيح بعض الأمور التي تساعد في فهم حقيقتها وطبيعة التعامل فيها، علماً أن المقصود من ذلك هو إعطاء صورة واقعية للسوق المالية بصرف النظر عن الحكم الشرعي لهذه السوق والأدوات المتداولة فيها، فلذلك موضع آخر سيأتي فيما بعد بمشيئة الله تعالى، وتوضيح هذه الأمور فيما يلي:

  1. موضوع المبـادلة في هذه السوق هو (المال)، وبه توصف فيقال: (السوق المالية)، وإليه تضاف فيقال: (سوق المال)، والمال في اصطلاح المختصين في شؤون الأسواق المالية يقصد به المال في صورته النقدية، فعلـى ذلك لا تدخل أسواق السلع مثل البترول، والذهب، والمحاصيل الزراعية في مفهوم السوق المالية، كما لا تدخل فيه أسواق العملات؛ لأنه وإن كانت النقود هي محل التعامل في هذه الأسواق إلا أنه يتم التعامل بها باعتبارها سلعة تباع وتشترى، ويطلب الربح فيها من خلال فروق الأسعار، بخلاف التعامل بها في سوق المال، حيث يكون الطلب عليها لغرض الحصول على المال اللازم لتمويل المشروعات، أو سداد الالتزامات، أو نحو ذلك.

  2. تتمثل الوظيفة الأساسية للسوق المالية في جذب وتجميع مدخرات الأفراد، والفوائض المالية لدى منشآت الأعمال وغيرها، ويعبر عنها بـ (الوحدات ذات الفائض المالي) وإتاحتها – وفقاً لعقود معينة – إلى الجهات التي تحتاج إليها، ويعبر عنها بـ (الوحدات ذات العجز أو الاحتياج المالي).

  3. تؤدي السوق المالية وظيفتها هذه من خلال أدوات مالية معينة، كالأسهم والسندات وغيرها، حيث تصدر الجهات المحتاجة إلى المال مثل هذه الأدوات، وتبيعها للجهات ذات الفائض المالي، فتحصل منها – مقابل هذه الأدوات- على احتياجاتها المالية.

  4. تطلق السوق المالية على عملية تتكون من مرحلتين:

  5. المرحلة الأولى: المرحلة التي يتم فيها إصدار الأوراق المالية، وهي ما تعرف بـ (السوق الأولية).

  6. المرحلة الثانية: المرحلة التي يتم فيها تداول هذه الأوراق، وهي ما تعرف بـ (السوق الثانوية).

  7. تتناول السوق المالية الحالات التي يتم فيها إصدار وتداول الأوراق المالية طويلة الأجل، كالأسهم والسندات، وهي ما تعرف بـ (سوق رأس المال)، والحالات التي يتم فيها إصدار وتداول الأوراق المالية قصيرة الأجل، كأذون الخزانة، وشهادات الإيداع، وهي ما تعرف بـ (سوق النقد).

  8. تتضمن الأسواق المالية (القنوات التي ينساب فيها المال) من قطاعات ومؤسسات وأفراد في المجتمع إلى قطاعات ومؤسسات وأفراد آخرين، من خلال بعض المؤسسات التي تعمل كوسيط بين المجموعتين، والتي يطلق عليها (الوسطاء الماليون).

  9. وبناءً على ذلك تعتبر مؤسسات الوساطة المالية – كالبنوك التجارية، وشركات التأمين، والمؤسسات الادخارية – جزءاً من السوق المالية.

  10. يستمد السوق المالي مفهومه من مفهوم السوق بشكل عام، وإذا كان مدلول السوق قد تطور ليشمل كل تعامل في سلع معينة أو غيرها، سواء تم بطريق الالتقاء المباشر في مكان محدد، أم تم بطريق غير مباشر، كشبكات الاتصال الهاتفية وغيرها، فإن السوق المالية تعني التعامل في الأموال عرضاً وطلباً، سواء تم ذلك في أماكن محددة كما في بورصات الأوراق المالية، أو تم بواسطة وسائل الاتصال المختلفة، من خلال ما يعرف بالسوق الموازية، أي: من خلال المؤسسات المالية المتخصصة في التعامل في الأوراق المالية بيعاً وشراءً، كبيوت السمسرة، وشركات الاستثمار، والبنوك التجارية.

  11. يتم في السوق المالية إصدار وتداول الأصول المالية بنوعيها، أي الأصول التي تعبر عن الملكية كالأسهم، والأصول التي تعبر عن المديونية كالسندات، بالإضافة إلى أنواع من القروض التي تصدر في شكل أدوات مالية قابلة للتداول، كشهادات الإيداع، والأوراق التجارية، وغيرها.

ومن خلال ما سبق، يمكن تعريف السوق المالية بأنها: (المجال الذي يتم من خلاله إصدار أدوات معينة، للحصول على الأموال اللازمة للمشروعات الإنتاجية وغيرها، وتداول هذه الأدوات).

وزيادة في إيضاح مفهوم الأسواق المالية، يحسن التعرض لوظيفتها، وذلك فيما يأتي:

وظيفة السوق المالية

تتمثل الوظيفة الأساسية للسوق المالية في تيسير حصول الفئات ذات العجز المالي على الأموال اللازمة لها من الفئات ذات الفائض المالي، إما بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر؛ كما تؤكد على ذلك الكتابات المتخصصة في هذا الشأن.

فقد جاء في كتاب مقدمة في الأسواق المالية: “يعتبر الهدف الأساسي من وجود الأسواق المالية في الاقتصاد القومي هو: تنظيم تدفق الأموال من الوحدات الاقتصادية، التي تتوفر فيها أموال فائضة عن احتياجاتها الاستثمارية، إلى الوحدات الاقتصادية التي تعاني من عجز في الأموال، بالقياس إلى حجم برامجها الاستثمارية”.

وجاء في كتاب البورصات والهندسة المالية: “الوظيفة الأساسية لسوق المال: تحقيق التدفقات الفعالة وذات الكفاءة العالية لأموال الاستثمارات الطويلة الأجل من المدخرين إلى المستثمرين”.

وجاء في كتاب نظرية النقود والبنوك والأسواق المالية: “يؤدي سوق المال – من خلال منشآته – وظيفة اقتصادية هامة، تتمثل في تحويل موارد مالية من الوحدات ذات الفائض إلى الوحدات ذات العجز”.

وتؤدي السوق المالية هذه الوظيفة بطريقتين من طرق التمويل:

  1. التمويل المباشر: وفيه تحصل الوحدات ذات الاحتياج المالي على احتياجاتها المالية مباشرة من الوحدات ذات الفائض، إما عن طريق الاقتراض المباشر، وإما عن طريق إصدار الأوراق المالية المختلفة، مثل: الأسهم، والسندات، وأذونات الخزانة.

وهذا التمويل إما أن يتم بدون وساطة أي من المؤسسات المالية، وإما أن يستعان فيه بخدمات بعض المؤسسات المالية التي تملك أساليب تسويقية متنوعة، مثل: مصارف الاستثمار، وسمسرة الأوراق المالية.

  1. التمويل غير المباشر: وذلك من خلال المؤسسات المالية الوسيطة، مثل: البنوك التجارية، وشركات التأمين، وصناديق المعاشات، وغيرها، حيث تقوم هذه المؤسسات بتجميع الأموال من الوحدات ذات الفائض، إما من خلال الودائع الجارية، والودائع لأجل، وودائع التوفير، وإما من خلال إصدار أوراق مالية خاصة، مثل وثائق التأمين على الحياة، وشهادات الإيداع، وشهادات الاستثمار، ثم تقوم باستخدام هذه الأموال في تقديم القروض لمن يحتاجها، أو شراء الأوراق المالية الجديدة التي تصدرها الوحدات ذات الاحتياج المالي.

وإنما عد ذلك تمويلاً غير مباشر؛ من جهة أن الأموال انتقلت من الوحدات ذات الفائض إلى الوحدات ذات الاحتياج بواسطة هذه المؤسسات.

المبحث الثاني: أنواع الأسواق المالية

تتكون السوق المالية من جزأين رئيسيين:

  • الجزء الأول: وفيه يتم عرض الأموال والطلب عليها؛ وذلك عن طريق إصدار أدوات مالية تمثل هذه الأموال، ويطلق على هذا الجزء: السوق الأولية.

  • الجزء الثاني: وفيه يتم تداول هذه الأدوات بالبيع والشراء، ويطلق على هذا الجزء السوق الثانوية.

وتتنوع هذه الأدوات – بالنظر إلى أجل استحقاقها – إلى أدوات مالية ذات أجل متوسط وطويل؛ كالأسهم والسندات، وأدوات مالية ذات أجل قصير، كأذون الخزانة.

ويطلق على السوق التي يتم فيها إصدار وتداول الأدوات المالية ذات الأجل المتوسط والطويل: سوق رأس المال، بينما يطلق على السوق التي يتم فيها إصدار وتداول الأدوات المالية ذات الأجل القصير: سوق النقد.

وتداول هذه الأدوات المالية إما أن يجري في قاعات معدة لذلك، وإما أن يجري من خلال مكاتب سماسرة الأوراق المالية، والوسطاء الماليين.

ويطلق على القاعة المخصصة للتداول: البورصة، أو السوق المنظمة، بينما يطلق على التداول الذي يتم من خلال مكاتب السماسرة والوسطاء: سوق التداول خارج البورصة، أو السوق غير المنظمة.

وهذا تعريف موجز وسريع بكل نوع من هذه الأسواق، وذلك في المطالب الآتية:

المطلب الأول: سوق رأس المال (Market Capital)

وهي السوق التي يتم التعامل فيها بالأدوات المالية ذات الأجل المتوسط والطويل، أي: التي يزيد أجل استحقاقها عن سنة، سواء أكانت هذه الأدوات تعبر عن دين كالسندات، أم عن ملكية كالأسهم.

وإنما سميت سوق رأس المال؛ لكونها السوق التي يلجأ إليها أصحاب المشروعات؛ لتكوين رأس المال في مشروعاتهم المختلفة.

المطلب الثاني: سوق النقد (Money Market)

وهي السوق التي من خلالها يمكن الحصول على القروض قصيرة الأجل، أي التي لا يزيد أجل استحقاقها عن سنة، سواء أكان ذلك من خلال عقد القرض المباشر، أم من خلال إصدار الأوراق المالية التي تتميز بسيولتها العالية، أي التي يمكن تحويلها إلى نقود خلال مدة قصيرة، كشهادات الإيداع القابلة للتداول.

وإنما سميت هذه السوق بـ (سوق النقد) لأنه يمكن تحويل الأصول المالية المتداولة فيها إلى نقود، بسرعة وسهولة، أو لأن هذه الأصول يمكن أن تقوم بوظيفة أو أكثر من وظائف النقود، أو لمجموع الأمرين.

المطلب الثالث: السوق الأولية (Primary Market)

وهي السوق التي يتم من خلالها توفير رأس المال اللازم لإنشاء شركات المساهمة، وذلك عن طريق إصدار أدوات الملكية، كالأسهم العادية، كما تقوم الحكومات، والشركات، وغيرها من خلالها باقتراض ما تحتاجه من الأموال، وذلك عن طريق إصدار أدوات الدين، كالسندات.

المطلب الرابع: السوق الثانوية (Secondary Market)

في السوق الثانوية يستطيع المقرض الذي أقرض الشركة (عن طريق شراء السندات من السوق الأولية) أن يبيع دينه أو جزءاً منه لآخر، وذلك ببيع هذه السندات أو جزء منها.

كما يستطيع الشريك الذي ساهم في الشركة (عن طريق شراء الأسهم من السوق الأولية) أن يبيع نصيبه في الشركة كله أو بعضه لآخر، وذلك ببيع هذه الأسهم، أو جزء منها.

وفوق ذلك فالسوق الثانوية سوق للمتاجرة في الأوراق المالية، يلجأ إليها كثير من المتعاملين لا بقصد المشاركة الفعلية؛ بل لغرض تحقيق الأرباح من فروق الأسعار، فيشتري الورقة لا ليحتفظ بها؛ بل ليبيعها عندما يرتفع سعرها في السوق؛ ليربح الفرق بين سعر شرائها وسعر بيعها.

وتنقسم السوق الثانوية إلى قسمين:

  • القسم الأول: البورصة (Exchange): ويطلق عليها السوق المنظمة، وسوق المزاد، والسوق الرسمية. وهي المكان الذي تتبادل فيه الأوراق المالية التي سبق إصدارها، إلا إنه يمكن أن تباع فيه الإصدارات الجديدة أيضاً.

  • القسم الثاني: سوق التداول خارج البورصة (Over-the-Counter Market): ويطلق عليها السوق غير المنظمة، والسوق غير الرسمية، والسوق الموازية. وتتميز هذه السوق بعدم وجود مكان محدد لإجراء التعامل، وإنما يتم الاتصال بين المتعاملين وعقد الصفقات من خلال شبكة كبيرة من أجهزة الاتصال القوية، كالخطوط الهاتفية، أو أطراف الحاسب الآلي، وغيرها من وسائل الاتصال السريعة التي تربط بين المتعاملين.

الفصل الثاني

الأدوات المالية المتداولة في الأسواق المالية

المبحث الأول: الأدوات المالية المتداولة في سوق رأس المال

يتداول في سوق رأس المال نوعان من الأدوات أو الأوراق المالية: أحدهما: يعبر عن ملكية، وهي الأسهم بنوعيها: العادية والممتازة، والآخر يعبر عن مديونية، وهي السندات.

وسيتم تناول هذه الأدوات في المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: الأسهم

سيتم الحديث عن الأسهم في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: التعريف بالأسهم، وأنواعها:

أولاً: التعريف بالأسهم:

السهم – في حقيقته – جزء من رأس مال شركة المساهمة، حيث يقسم رأس مال الشركة – عند تأسيسها – إلى أجزاء متساوية، يمثل كل جزء منها سهماً، ويمثل هذا السهم بصك يثبت ملكية المساهم له، ويسمى هذا الصك – أيضاً – سهماً، فالسهم إذاً هو حق الشريك في الشركة، وهو أيضاً الصك المثبت لهذا الحق.

ولهذا السهم قيمة اسمية، وقيمة إصدار، وقيمة دفترية، وقيمة حقيقية، وقيمة سوقية، وقيمة تصفية، وسأقتصر طلباً للإيجاز على بيان المراد بالقيمة الاسمية، وقيمة الإصدار، والقيمة السوقية.

فالقيمة الاسمية هي: القيمة التي تحدد للسهم عند تأسيس الشركة، وتدون في شهادة السهم الصادرة لمالكه، ومن مجموع القيم الاسمية لجميع الأسهم يتكون رأس مال الشركة. أما قيمة الإصدار فهي: القيمة التي يصدر بها السهم، سواء عند تأسيس الشركة، أو عند زيادة رأس المال، وتكون مساوية للقيمة الاسمية في الغالب، وقد تكون أكثر منها. أما القيمة السوقية فهي: القيمة التي يباع بها السهم في السوق، وهي تتغير بحسب حالة العرض والطلب، التي تتأثر بعوامل متعددة، ترتبط بوضع الشركة الخاص، أو بالوضع الاقتصادي العام، ولذا فقد تكون القيمة السوقية مساوية للقيمة الاسمية، وقد تكون أقل منها، أو أكثر.

ثانياً: أنواع الأسهم:

تتنوع الأسهم – باعتبارات مختلفة – إلى عدة أنواع، بيانها فيما يأتي:

  • أنواع الأسهم بالنظر إلى طبيعة الحصة المقدمة: وتتنوع إلى نوعين، هما:

    1. الأسهم النقدية: وهي الأسهم التي تعطى للشريك إذا قدم حصته في رأس مال الشركة نقوداً.

    2. الأسهم العينية: وهي الأسهم التي تعطى للشريك إذا قدم حصته في رأس مال الشركة عيناً من الأعيان، كأرض، أو مبنى، أو بضاعة، أو مصنع.

  • أنواع الأسهم بالنظر إلى طريقة تداولها: وتتنوع إلى ثلاثة أنواع، هي:

    1. الأسهم الاسمية: وهي الأسهم التي تحمل اسم مالكها، وذلك بأن يدون اسمه على شهادة السهم.

    2. الأسهم لحاملها: وهي الأسهم التي لا يذكر فيها اسم مالكها، وإنما يذكر فيها ما يشير إلى أنها لحاملها، حيث يعتبر حاملها مالكاً لها.

    3. الأسهم الإذنية أو لأمر: وهي الأسهم التي يذكر فيها اسم مالكها، مع النص على كونها لإذنه أو لأمره.

  • أنواع الأسهم بالنظر إلى الحقوق التي تخولها لحاملها: وتتنوع إلى نوعين، هما:

    1. الأسهم العادية: وهي الأسهم التي يتكون منها رأس مال الشركة، وتخول حاملها حقوقاً، منها:

      • أ) حق حضور الجمعية العامة للشركة، والتصويت على قراراتها.

      • ب) حق ترشيح نفسه للعضوية في مجلس الإدارة، إذا كان يملك الحد الأدنى المطلوب من الأسهم.

      • ج) حق الحصول على نصيب من الأرباح السنوية للشركة، في حال تحققها وتوزيعها.

      • د) حق الحصول على حصة من صافي أصول الشركة عند تصفيتها.

      • ه) حق الأولوية في الاكتتاب في الأسهم الجديدة التي تصدرها الشركة لزيادة رأس المال.

      • و) حق نقل ملكية السهم إلى شخص آخر، بطريق البيع في السوق المالية، أو بغيرها من الطرق.

      • ز) حق انتخاب أعضاء مجلس إدارة الشركة.

      • ح) حق الاطلاع على دفاتر وأوراق الشركة.

    2. الأسهم الممتازة، أو المفضلة: وهي الأسهم التي يكون لحامليها الأولوية في الحصول على الأرباح، وفي الحصول على نصيبهم من ممتلكات الشركة عند التصفية قبل حملة الأسهم العادية.

وهي تتنوع إلى عدة أنواع، منها:

  • 1- الأسهم الممتازة المجمعة أو المتراكمة الأرباح.

  • 2- الأسهم الممتازة المشاركة في الأرباح.

  • 3- الأسهم الممتازة القابلة للتحويل إلى أسهم عادية.

الفرع الثاني: حكم إصدار وتداول الأسهم:

أولاً: حكم إصدار الأسهم:

السهم يراد به – كما سبق – معنيان:

الأول: ذلك الجزء من رأس المال الذي يدفعه المساهم عند رغبته في الاشتراك في الشركة، ثم يراد به بعد ذلك: نصيبه في أموال الشركة وممتلكاتها.

الثاني: الصك الذي يمثل هذا النصيب، ويدل على ملكية المساهم لجزء من رأس مال الشركة وسائر أموالها.

والسهم بالمعنى الأول قد يكون سهماً عادياً، وقد يكون سهماً ممتازاً، وقد يكون سهم تمتع، وبالمعنى الثاني، قد يكون اسمياً، أو لأمر، أو لحامله، ولكل من هذه الأنواع حكم؛ لكن لا تتسع هذه المذكرة لبيانه؛ ولذا فسأقتصر على بيان حكم إصدار الأسهم العادية والممتازة، وذلك فيما يأتي:

  1. حكم إصدار الأسهم العادية: يختلف حكم إصدار الأسهم باختلاف نوع النشاط الذي تمارسه الشركة، وذلك أن شركات المساهمة تتنوع بالنظر إلى طبيعة نشاطها – من حيث حله وحرمته – إلى ثلاثة أنواع:

    • النوع الأول: شركات مساهمة تمارس نشاطاً مباحاً خالصاً.

وهذا النوع من الشركات لا خلاف بين العلماء القائلين بجواز شركات المساهمة من حيث الأصل في جواز إصدار أسهمها، ودليله عموم الأدلة الدالة على جواز الشركة بأنواعها المعروفة في الفقه الإسلامي باعتبار أن شركات المساهمة نوع من أنوع الشركات، سواء خرجت على أحد هذه الأنواع، أو قيل إنها نوع جديد غير ملحق بأي منها.

ومن هذه الأدلة عموم قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾( ٥)، ومنها: ما رواه البخاري من حديث أبي المنهال قال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً، يداً بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي ﷺ عن ذلك، فقال: «ما كان يداً بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه»( ٦).

  • النوع الثاني: شركات مساهمة تمارس نشاطاً محرماً خالصاً أو غالباً، مثل البنوك الربوية، وشركات الخمور والتبغ ولحوم الخنزير، وشركات القمار، وما شاكلها.

وهذا النوع من الشركات لا خلاف بين أحد من أهل العلم في عدم جواز إصدار أسهمها.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم ٦٣ : (لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها).

  • النوع الثالث: شركات مساهمة أصل نشاطها وغالبه حلال، كالشركات الصناعية، والتجارية، وشركات الخدمات، وغيرها، ولكنها تتعامل بمعاملات محرمة، مثل الاقتراض أو الإقراض بالربا.

وفي هذا النوع من الشركات وقع الخلاف بين العلماء المعاصرين في حكم أسهمها على قولين مشهورين:

  • القول الأول: عدم جواز المساهمة فيها.

وإليه ذهب مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وهيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي، و الهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني.

وهو قول عدد من العلماء المعاصرين، منهم : الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله والشيخ عبدالله بن بيه، والدكتور الصديق الضرير، والدكتور صالح المرزوقي، والدكتور عجيل النشمي، والدكتور عبدالله السعيدي، والدكتور أحمد الخليل، وهو أحد القولين للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في فتاوى متفرقة له، وإليه مال الدكتور يوسف الشبيلي في رسالته للدكتوراه.

  • القول الثاني: جواز المساهمة في هذا النوع من الشركات، مع وجوب التخلص من الربح المحرم.

وممن ذهب إلى هذا القول: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني، وغالب المشاركين في ندوة البركة السادسة، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.

وهو قول عدد من العلماء المعاصرين؛ منهم: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في القول المشهور عنه، والشيخ عبد الله بن منيع، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور علي محيي الدين القره داغي، والدكتور يوسف الشبيلي.

وقد جعل بعض أصحاب هذا القول ضوابط للجواز تتعلق بنسبة المال المقترض بالربا، ونسبة المال المستثمر في الحرام، ونسبة الإيراد المحرم، وضوابط أخرى، على خلاف في ذلك بين أصحاب هذا القول.

واستعراض أدلة القولين ومناقشتها مما لا تتحمله هذه المذكرة، فيمكن الرجوع إليها في مظانها.

  1. حكم إصدار الأسهم الممتازة: الأسهم الممتازة أو المفضلة – كما سبق – هي الأسهم التي تعطي حامليها الأولية في الحصول على قيمة أسهمهم من أصول الشركة عند تصفيتها قبل حملة الأسهم العادية، أو الأولوية في الحصول على الأرباح قبلهم، وذلك بأن يأخذ حملة هذا النوع من الأسهم نسبة مئوية ثابتة من القيمة الاسمية لتلك الأسهم، ثم يوزع الباقي من الأرباح – إن بقي شيء – بينهم وبين حملة الأسهم العادية، وقد تكون الأولوية في الأمرين معاً.

وهذا النوع من الأسهم ليس لحملتها – في الأصل – حق التصويت في اجتماعات الجمعية العامة للمساهمين، ولكن قد تصدر بعض الشركات نوعاً آخر من الأسهم، وهي الأسهم ذات الصوت المتعدد التي تعطي حاملها أكثر من صوت في الجمعية العامة.

ولذا كان لابد من بيان حكم هذين النوعين من أسهم الامتياز، وذلك فيما يأتي:

  • أ – حكم الأسهم الممتازة ذات الأولوية في الأرباح، وذات الأولوية في أموال الشركة عند تصفيتها: ذهب كل من اطلعت على قوله من الباحثين إلى تحريم إصدار هذا النوع من الأسهم، وبه صدر قرار مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره السابعة، حيث جاء فيه: (لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية، تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح، ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية، أو الإدارية).

وقد استدل على عدم جواز هذا النوع من الأسهم بما يأتي:

  • 1- أن أصحاب الأسهم الممتازة ليس لهم مال أو عمل زائد، يستحقون به هذه الزيادة في الربح، وهو إنما يستحق بالمال أو بالعمل، كما هو مقرر في القواعد الشرعية التي تحكم الشركات.

  • 2- أن النسبة الثابتة التي يأخذها أصحاب الأسهم الممتازة من الأرباح في حقيقتها ربا؛ لأنها زيادة بلا مقابل، والربا حرام، ولأنه يحتمل أن لا تربح الشركة غير هذه النسبة، فيكون في ذلك ضرر على المساهمين الآخرين، وظلم لهم، وبخس لحقوقهم، وذلك غير جائز شرعاً؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}( ٧)، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمً}( ٨) ، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من عذاب يوم أليم}( ٩)، وقوله ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»( ١٠).

  • 3- أن الشركة تقوم على المخاطرة، فإما ربح وإما خسارة، والخسارة تكون من رأس المال، فإذا ضمن لأصحاب هذه الأسهم حق استرجاع قيمتها، كان ذلك منافياً لمعنى الشركة، كما أنهم – في حال خسارة الشركة – سيحصلون على قيمة أسهم من أسهم الآخرين، وذلك مناف للعدل، وظلم للشركاء الآخرين، وهو غير جائز شرعاً.

  • ب – حكم الأسهم الممتازة، ذات الصوت المتعدد: اختلف في حكم إصدار هذا النوع من الأسهم على قولين:

  • القول الأول: الجواز.

وإليه ذهب الدكتور علي محيي الدين القره داغي، ولكنه اشترط لذلك أن يكون هذا الامتياز منصوصاً عليه في قانون الاكتتاب، وبعيداً عن الاستغلال.

ولعل هذا النوع من الأسهم هو المراد بما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي السابق، حين نص على جواز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية، أو الإدارية.

وحجة أصحاب هذا القول أن هذا الامتياز لا يعود إلى الجوانب المالية، وإنما يعود إلى الجوانب الإدارية والإشراف على العمل، الذي يتحكم فيه الاتفاق، وليس فيه أي مخالفة لنصوص الشرع، ولا لمقتضى عقد الشركة.

  • القول الثاني: عدم الجواز، وإليه ذهب جملة من الباحثين، منهم الدكتور عبدالعزيز الخياط، والدكتور صالح بن زابن المرزوقي، والدكتور محمد رواس قلعه جي، والدكتور محمد عبدالغفار الشريف، والدكتور عطية فياض، والدكتور محمد صبري هارون، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد.

وحجة أصحاب هذا القول أن الواجب تساوي الشركاء في الحقوق، ومن هذه الحقوق التساوي في الأصوات بحسب الأسهم، كما أن منح صاحب هذا السهم أكثر من صوت مع أنه يتساوى مع غيره في قيمة السهم يؤدي إلى وقوع الضرر؛ حيث تتحكم أقلية في قرارات الشركة.

وأجاب أصحاب هذا القول عن حجة الفريق الأول بأن إعطاءه أكثر من صوت ضرر، والضرر يزال أياً كان، سواء أكان في الحقوق المالية أم في غيرها.

  • الترجيح: الذي يترجح – والله أعلم – القول بالجواز إذا كان هذا الامتياز في التصويت لغرض صحيح، مثل أن يكون صاحبه معروفاً بسداد الرأي، أو الخبرة في المجال المرتبط بنشاط الشركة، ونحو ذلك، بشرط أن يكون ذلك منصوصاً عليه في نظام الشركة.

أما ما ذكره أصحاب القول الثاني من وجوب التساوي في الحقوق، ومنها التساوي في الأصوات، فالجواب عنه، أن مقتضى قولهم هذا أن يقولوا بوجوب المساواة بينهم في الأصوات بحسب الرؤوس، لا بحسب عدد الأسهم؛ إذ هو مقتضى وجوب التساوي في الحقوق، وهم لا يقولون به؛ ذلك أن إعطاء بعض المساهمين ألف صوت مثلاً، وبعضهم مائة صوت، بالنظر إلى عدد الأسهم التي يملكونها، ليس فيه مساواة في الحقوق على الحقيقة، بل هو مفاضلة بينهم في الحقوق بناء على التفاضل بينهم في عدد الأسهم التي يملكونها، كما فوضل بينهم في الأرباح؛ لتفاضلهم في ذلك، وهذا على التسليم بأن التصويت من الحقوق، ولكن الحقيقة أن التصويت ليس من الحقوق التي تجب التسوية فيها، بل هو – في الأصل – من الأمور الإجرائية التي تتعلق بكيفية إدارة الشركة، والترجيح بين الآراء المختلفة.

أما قولهم إن ذلك يؤدي إلى وقوع الضرر، حيث تتحكم أقلية في قرارات الشركة، فالجواب عنه أن هذا المعنى موجود في إعطاء المساهم أصواتاً بعدد الأسهم التي يملكها، فإنه أيضاً يؤدي إلى تحكم أقلية في قرارات الشركة، وهم الذين يملكون الأسهم الكثيرة، فليقولوا في هذا بعدم الجواز أيضاً، وإلا لزمهم التناقض.

ثانياً: حكم تداول الأسهم:

يطلق مصطلح تداول الأسهم على بيع المساهم لما يملكه من أسهم إذا أراد الخروج من الشركة، كما يطلق على بيعها بغرض المتاجرة بها، وهو ما تعارف المتعاملون على تسميته بالمضاربة.

أما بيعها للغرض الأول، فهو مما ذهب عامة الفقهاء والباحثين المعاصرين إلى القول بجوازه؛ وذلك لعموم قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾( ١١ )، فقد دلت هذه الآية على إباحة كل بيع إلا ما خص بدليل، وبيع الأسهم داخل في هذا العموم؛ لعدم الدليل المعتبر على المنع منه، كما أن الأسهم ملك للشريك، له أن يتصرف فيها بما يشاء؛ من بيع، أو هبة، أو غير ذلك، لاسيما وقد أذن كل واحد من الشركاء بمثل هذا التصرف، من خلال قبولهم لنظام الشركة، ودخولهم فيها على ذلك.

أما المتاجرة بأسهم هذا النوع من الشركات فالذي عليه عامة العلماء والباحثين المعاصرين هو جواز المتاجرة بها، ومال الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير إلى منع المتاجرة بها.

أدلة القول الأول:

للقول بجواز المتاجرة بالأسهم عدد من الأدلة، اقتصر على بعضها هنا طلباً للاختصار، ومنها عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾( ١٢ )، فقد دلت هذه الآية على إباحة كل بيع إلا ما خص بدليل، وبيع الأسهم داخل في هذا العموم؛ لعدم الدليل المعتبر على المنع منه، وإذا جاز بيعها جازت المتاجرة بها لعموم الأدلة الدالة على جواز التجارة، مثل قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾( ١٣ )، وقوله ﷺ: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى وبر وصدق»( ١٤ )، فيدخل في ذلك التجارة بالأسهم.

أدلة القول الثاني:

  1. أن (اتخاذ الأسهم سلعة تشترى وتباع بقصد الربح، لا يخلو من شبهة بيع النقد بأكثر منه، ما دام مشتري السهم لا غرض له في المشاركة في موجودات الشركة، وإنما غرضه بيع السهم بأكثر مما اشتراه به).

ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأن العقد في بيع الأسهم يرد على ما يمثله السهم من موجودات، وتملك تلك الموجودات بملكية السهم، فهو عقد بيع حقيقي يرد على سلعة حقيقية، وتترتب عليه آثاره، وكون مشتري السهم يبيعه بعد ذلك بأكثر مما اشتراه به لا يعني أن ما يجري هو بيع نقد بنقد أكثر منه. 2. أن اتخاذ الأسهم سلعة تباع وتشترى؛ ابتغاء الربح فقط، من غير قصد إلى اقتناء الأسهم، والمشاركة في الشركة (تجارة يصعب الالتزام فيها بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا مصلحة فيها للمجتمع، بل قد تعود عليه بأضرار بالغة).

وقد نوقش هذا الاستدلال بأن شراء الأسهم لغرض الحصول على فروق الأسعار، لا يخلو من فائدة في تحريك الأنشطة المختلفة، حيث يتمكن بائع الأسهم من الحصول على السيولة اللازمة التي يتمكن بها من خوض أنواع أخرى من التصرفات الاستثمارية، كما أن في ذلك تشجيعاً للأفراد على توجيه مدخراتهم إلى أوجه الاستثمار المختلفة التي يكون فيها منفعة ظاهرة للمجتمع، عن طريق المشاركة في شركات المساهمة؛ إذ لولا علم المساهمين بإمكانية بيع أسهمهم في أي وقت، لترددوا كثيراً في الإقدام على المشاركة في تلك الشركات، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق مع القول بعدم جواز الاتجار في الأسهم؛ لأن عمليات المتاجرة هي التي تضمن وجود مشترين دائمين لتلك الأسهم.

وأما ما يخشى من ضرر، أو ما وقع فعلاً من أضرار التداولات السريعة للأسهم في بعض الظروف أو البلاد، فمرد ذلك إلى إهمال الضوابط الشرعية لبيع الأسهم، مثل بيع الأسهم في أثناء الاكتتاب بأكثر من قيمتها الاسمية، أو بيعها على المكشوف، أو مع تأجيل التسلم والتسليم، ونحو ذلك.

الترجيح

الذي يترجح لي – والله أعلم – هو القول الأول؛ وذلك أن ما ذكره الدكتور الضرير من الأضرار المترتبة على تداول الأسهم لا يرجع إلى أمر يتعلق بالأسهم ذاتها، وإنما يرجع إلى سلوك المتعاملين بالأسهم، فليكن الحكم على أنواع التصرفات الضارة التي يمارسها المتعاملون بالأسهم، أما المتاجرة ذاتها فليس في الأدلة الشرعية ما يمنعها في الأسهم كغيرها من السلع المباحة، والله أعلم.

المطلب الثاني: السندات

وسيتم الحديث عنها في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: التعريف بالسندات وأنواعها

أولاً: التعريف بالسندات:

السند أداة مالية، تصدرها الحكومات والشركات عندما تريد اقتراض مقدار كبير من المال، يتعذر في العادة أن تحصل عليه من فرد واحد، أو مؤسسة واحدة، فتجزئ القرض إلى أجزاء صغيرة متساوية، وتصدر في مقابل كل جزء صكًا، يحمل قيمة اسمية مساوية لذلك الجزء، بحيث يمثل مجموع قيم هذه الصكوك مجموع المال الذي تريد اقتراضه، ثم تعرض هذه الصكوك على الراغبين في الإقراض من الأفراد والمؤسسات؛ ليشاركوا جميعاً في تقديم القرض، كل بحسب قدرته ورغبته، بحيث تمثل هذه الصكوك بالنسبة لكل منهم سنداً، يثبت كونه دائناً للشركة بالقدر الذي أقرضه، ولهذا اصطلح على تسمية هذه الصكوك بالسندات.

فالسند إذاً بالنسبة للحكومات والشركات أداة للاقتراض، وبالنسبة للمقرض ورقة أو صك، يثبت كونه دائناً للمقترض بالقيمة المدونة عليه.

ويلتزم مصدر السند – بالإضافة إلى التزامه بتسديد قيمته في التاريخ المحدد – بأن يدفع لحامله على فترات زمنية محددة (سنوية، أو نصف سنوية في الغالب) فائدة على القرض، يتم تحديدها عادة بنسبة مئوية من القيمة الاسمية للسند، ولا يتوقف دفع هذه الفائدة على حصول الربح في المشروع الذي أصدرت السندات لتمويله مثلاً، بل يلزم دفعها على أي حال.

ثانياً: أنواع السندات:

تتنوع السندات إلى أنواع عديدة، يمكن ذكر أشهرها وفقاً للتقسيمات الآتية:

  • أ – تقسيم السندات من حيث تاريخ الوفاء بقيمتها:

يمكن تقسيم السندات من حيث تاريخ الوفاء بقيمتها إلى الأقسام الآتية:

1.  **السندات ذات التاريخ المحدد للوفاء:** وهي السندات التي ينص - عند إصدارها - على لزوم الوفاء بها في تاريخ محدد، بأن يدفع المصدر القيمة الاسمية للسندات جميعها عند تاريخ الاستحقاق المنصوص عليه في العقد، ولا يحق له إلزام حامل السند قبول الوفاء به قبل هذا التاريخ.
2.  **السندات التسلسلية:** وهي السندات التي يتفق على لزوم الوفاء بها وفق جدول زمني يتضمن تواريخ استحقاق متسلسلة حتى تاريخ الاستحقاق النهائي، مثل إصدار سندات بأربعين مليون ريال لمدة عشر سنوات، على أن يتم تسديد أربعة ملايين ريال في نهاية كل سنة.
3.  **السندات القابلة للاستدعاء:** وهي السندات التي ينص في عقد الإصدار على حق المصدر في رد قيمتها إلى حامليها قبل تاريخ الاستحقاق، إذا رأت مصلحة لها في ذلك.

وإذا لم يكن السند قابلاً للاستدعاء فإن الشركة قد تقوم بتسديد السندات عن طريق شرائها مباشرة من السوق بالسعر السائد، وذلك عندما تكون قيمة السند السوقية أقل من قيمته الاسمية.

4.  **السندات القابلة للتحويل:** وهي السندات التي يمكن تحويلها إلى أسهم عادية أو ممتازة بعد مضي مدة محددة، إذا رغب حاملها في ذلك، بحيث يتحول - بمجرد التحويل - من دائن للشركة إلى شريك مساهم، وذلك وفقاً لشروط وقواعد محددة في العقد.

  • ب – تقسيم السندات من حيث الدخل:

أي: من حيث نوع العوائد المالية التي يجنيها حملة السندات، وتنقسم إلى عدة أقسام، منها:

1.  **السندات ذات معدل الفائدة الثابت:** وهي السندات التي تحدد فائدتها بنسبة مئوية ثابتة من قيمتها الاسمية، بحيث تدفع هذه الفائدة المحددة بشكل دوري، إلى أن يحل أجل الاستحقاق ويتم الوفاء بالقيمة الاسمية للسند.
2.  **السندات ذات معدل الفائدة العائم (المتغير):** وهي السندات التي لا تحدد فائدتها بنسبة ثابتة، وإنما تتغير هذه النسبة تبعاً لتغير أسعار الفائدة الجارية في السوق، بحيث إذا حل وقت دفع الفائدة، أعطي حامل السند نسبة الفائدة السائدة في ذلك الوقت.
3.  **السندات التي لا تحمل معدلاً للفائدة (السندات ذات الكوبون الصفري):** وهي السندات التي تباع بخصم من قيمتها الاسمية، فلا تحمل معدلاً للفائدة كغيرها من السندات، وإنما يمثل الفرق بين قيمتها الاسمية التي يقبضها المشتري عند تاريخ الاستحقاق، وبين السعر الذي اشتراها به، الفائدة الحقيقية على القرض، وذلك أنها تباع عند الإصدار بسعر يقل عن القيمة الاسمية المدونة عليها، ولا يلتزم مصدرها إلا بدفع تلك القيمة عندما يحل أجل استحقاقها.
4.  **سندات الدخل:** وهي السندات التي يرتبط دفع فوائدها السنوية بتحقيق الشركة أرباحاً في تلك السنة، بحيث لا يحق لحملتها المطالبة بالفوائد في السنوات التي لم تحقق فيها الشركة أرباحاً كافية، إلا أنه قد ينص في عقد الإصدار على دفع فوائد السنوات التي لم تتحقق فيها أرباح من أرباح السنوات اللاحقة.
5.  **السندات المشاركة:** وهي السندات التي تعطي حاملها الحق في جزء من أرباح الشركة عندما تصل إلى معدل معين، إضافة إلى الفوائد الدورية.

  • ثالثاً: الفرق بين الأسهم والسندات:

إذا كان السهم والسند يتفقان في أن كلاً منهما يعد من الأوراق المالية المتداولة في سوق المال، إلا أن بينهما فروقاً يمكن ذكر أهمها فيما يأتي:

1.  السند جزء من قرض، وهو دين على الشركة، بينما السهم جزء من رأس مال الشركة.
2.  ليس لحامل السند حق في إدارة الشركة، وليس له حضور جمعيتها العامة إلا في حالات معينة؛ وذلك أنه دائن أجنبي عن الشركة، بينما هذه الحقوق مخولة لحامل السهم؛ باعتباره شريكاً ومالكاً لجزء من الشركة.
3.  لا يحصل حامل السهم على نصيب من الأرباح إلا إذا حققت الشركة أرباحاً، وقررت الجمعية العامة توزيعها، بينما يحصل حامل السند على الفائدة المقررة ولو لم تحقق الشركة أرباحاً.
4.  عند إفلاس الشركة أو تصفيتها يقدم حامل السند في الحصول على قيمته وفوائده قبل حامل السهم.

الفرع الثاني: حكم إصدار السندات وتداولها:

أولاً: حكم إصدار السندات:

يحرم إصدار جميع أنواع السندات التي تتضمن اشتراط رد المبلغ المقترض وزيادة على أي وجه كان، سواء أدفعت هذه الزيادة عند سداد أصل القرض، أم دفعت على أقساط شهرية، أو سنوية، أو غير ذلك، وسواء أكانت هذه الزيادة تمثل نسبة من قيمة السند، كما في أغلب أنواع السندات، أم خصماً منها، كما في السندات ذات الكوبون الصفري.

وبذلك صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فقد جاء في قرار المجمع المذكور رقم (٦٠/١١): (بعد الاطلاع على أن السند شهادة، يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متفق عليها، منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أوترتيب نفع مشروط، سواء أكان جوائز توزع بالقرعة، أم مبلغاً مقطوعاً، أم حسماً، قرر ما يأتي:

  1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه، أو نفع مشروط، محرمة شرعاً، من حيث الإصدار، أو الشراء، أو التداول؛ لأنها قروض ربوية، سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة، أوعامة ترتبط بالدولة، ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية، أو ادخارية، أوتسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً، أو ريعاً، أو عمولة، أو عائداً.

  2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري، باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق، باعتبارها حسماً لهذه السندات.

  3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز، باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار).

ثانياً: حكم تداول السندات:

بناء على ما تقرر من حرمة إصدار السندات؛ بسبب اشتمالها على الربا، فإن تداولها يكون غير جائز شرعاً؛ وذلك أن لفظ التداول يفيد معنى الاستمرار وتناقل السند من يد إلى يد محملاً بفوائده الربوية، وهذا يعني أن مشتري السند يظل دائناً للشركة المصدرة، ويتقاضى على دينه فوائد ربوية، وذلك محرم في شرع الله، فكان التداول المؤدي إلى ذلك محرماً.

وبذلك صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الذي سبق نقل نصه.

المبحث الثاني: الأدوات المالية المتداولة في سوق النقد

تتمثل الأدوات المالية المتداولة في سوق النقد في صكوك دين قصيرة الأجل، قابلة للتداول، يستحق حاملها استرداد المبلغ المدون عليها، الذي سبق أن أقرضه لطرف آخر، في تاريخ محدد، لا يجاوز – في الغالب – سنة منذ إصدارها، وتتميز هذه الأدوات بإمكانية التصرف فيها قبل تاريخ الاستحقاق، وذلك ببيعها في سوق النقد، حيث يتم تداول هذه الأدوات إما على أساس سعر الخصم، أو على أساس سعر الفائدة، حسب نوع الأداة المالية.

وسوف يتم تناول بعض هذه الأدوات في المطالب الآتية:

المطلب الأول: أذونات الخزانة

سيتم الحديث عن أذونات الخزانة في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: التعريف بأذونات الخزانة:

أذونات الخزانة، هي: أدوات دين قصيرة الأجل، تصدرها الحكومة؛ لغرض الاقتراض، وتتراوح فترة استحقاقها ما بين ثلاثة أشهر، واثني عشر شهراً.

وهي لا تحمل سعر فائدة محدد، وإنما تباع بخصم، أي بسعر يقل عن قيمتها الاسمية، على أن يسترد مشتريها قيمتها الاسمية في تاريخ الاستحقاق.

وتتمثل الفائدة التي يحصل عليها المقرض في الفرق بين ما دفعه عند شراء الورقة ثمناً لها، وبين قيمتها الاسمية التي يقبضها في تاريخ الاستحقاق.

ويتم بيعها عن طريق المزاد، حيث يقوم البنك المركزي في الدولة بعرضها على المستثمرين، الذين هم في العادة من المؤسسات المالية الكبيرة، كالبنوك التجارية، وشركات التأمين، والمتاجرين في هذا النوع من الأدوات المالية، وبيعها لمن يقدم السعر الأعلى، ثم الأقل فالأقل.

الفرع الثاني: حكم إصدار أذونات الخزانة وتداولها:

أولاً: حكم إصدار أذونات الخزانة.

من التعريف السابق بأذونات الخزانة تبين أنها – في حقيقتها – سندات بمبالغ تلتزم الحكومة بدفعها آجلاً لمن يدفع ثمنها حالاً، وأن الغرض من إصدارها أن تحصل الحكومة على الأموال اللازمة لتمويل نفقاتها الحالية.

وعلى ذلك فإن إصدار أذون الخزانة وبيعها للمستثمرين لا يخرج – في توصيفه الفقهي – عن أحد محملين:

المحمل الأول: أن يكون اقتراضاً بفائدة، حيث يتمثل القرض في المبلغ الذي يدفعه المشتري ثمناً للإذن، وتتمثل الفائدة في الفرق بين هذا المبلغ وبين قيمة الإذن الاسمية، التي يقبضها المشتري في تاريخ الاستحقاق.

المحمل الثاني: أن يكون من قبيل بيع النقود بالنقود، أي بيع نقود مؤجلة (وهي قيمة الإذن الاسمية التي تلتزم الحكومة بدفعها في تاريخ الاستحقاق) بنقود حالة أقل منها (وهي ما يدفعه مشتري الإذن ثمناً له وقت العقد).

ويؤيد الحمل على البيع أن تسويق الأذون المصدرة يتم عن طريق بيع هذه الأذون على المستثمرين، أي أن تسويقها خرج مخرج البيع، ومعلوم أن البيع لا يرد على الإذن نفسه؛ لأنه لا قيمة له، وإنما يرد على ما يمثله الإذن، وهو النقود.

وعلى أي من هذين التقديرين فإن إصدار أذون الخزانة يكون محرماً شرعاً؛ لأنه على التقدير الأول يكون قرضاً جر نفعاً، والقاعدة الفقهية المتفق عليها تقول: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).

وعلى التقدير الثاني يكون إصدار أذون الخزانة مشتملاً على ربا النسئية المجمع على تحريمه؛ لأن من شرط بيع النقود عندما تباع بنقود من جنسها: التماثل، والحلول، والتقابض في مجلس العقد؛ لقوله ﷺ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز»( ١٥)، قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالغائب أعم من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقاً: مؤجلاً كان أو حالاً، والناجز الحاضر) ( ١٦).

وهذه الشروط مفتقدة في بيع أذون الخزانة؛ لأن مشتري الإذن يشتري نقوداً مؤجلة بنقود حالة أقل منها، وإن شئت قل إن مصدر الإذن يشتري نقوداً حالة بنقود مؤجلة أكثر منها، فلم يتحقق التماثل، بل وجد التفاضل، ولم يتحقق الحلول فضلاً عن التقابض، بل وجد التأجيل في أحد العوضين، فكان ذلك رباً؛ لقوله ﷺ: «الذهب بالذهب رباً، إلا هاء وهاء»( ١٧).

ثانياً: حكم تداول أذونات الخزانة.

ينظر إلى حامل الإذن – من الناحية القانونية – باعتباره دائناً لخزينة الدولة، بقيمته الاسمية، ولكن الصحيح – من الناحية الشرعية – أنه يعتبر دائناً لخزينة الدولة بالمبلغ الذي دفعه عند شراء الإذن، وليس بقيمته الاسمية؛ لأن الفرق بين قيمة الإذن الاسمية وبين المبلغ الذي دفعه ثمناً له، هو زيادة ربوية يحرم عليه أخذها، فليس له إلا رأس ماله الذي دفعه؛ لقوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}( ١٨)، وقوله ﷺ: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله»( ١٩).

وبناء على ذلك، فإن صاحب الإذن عندما يبيعه، فإن عقد البيع – من حيث التوصيف الشرعي – ينصب على الدين الأصلي، دون زيادته الربوية؛ لأن البائع لا يملك هذه الزيادة أصلاً، وإن كان الواقع أن المشتري يتقاضى هذه الزيادة الربوية فعلاً، وذلك بقبض القيمة الاسمية للإذن وقت الاستحقاق، لكن هذا الواقع مبني على أحكام القوانين الوضعية، لا الأحكام الشرعية، فلا يخل ذلك بالتوصيف الشرعي الصحيح لهذا العقد.

ووفقاً لهذا التوصيف فإنه يلحظ في تداول أذونات الخزينة الأمور التالية:

الأمر الأول: أن صاحب الدين، وهو حامل الإذن يبيعه بأكثر منه، وإن كان في الظاهر أنه يبيعه بأقل، بالنظر إلى أنه يبيع الإذن بأقل من قيمته الاسمية، وذلك أن ما زاد على المبلغ الذي دفعه عند شراء الإذن هو زيادة ربوية لا يستحقها من الناحية الشرعية، فلا يسوغ له بيعها أصلاً، فيكون المعقود عليه هو ما دفعه فقط.

فمثلاً إذا كانت القيمة الاسمية للإذن مائة ريال، ودفع مشتري الإذن تسعين ريالاً ثمناً له، فليس له من الناحية الشرعية إلا ما دفعه، وهو تسعون ريالاً، ولا يجوز له أن يتقاضى ما زاد على ذلك، وهو عشرة ريالات؛ لأنها ربا.

وعلى ذلك فإذا باع الإذن الذي يحمله، فإنه إنما يبيع الدين الذي يمثله هذا الإذن، وهو تسعون ريالاً، فإذا باعه بخمسة وتسعين ريالاً، فقد باع الدين الذي له بأكثر منه.

وفي هذا إخلال بشرط من شروط بيع الدين، وهو أن يباع بمثله إن كان العوضان من الأموال الربوية، وكانا من جنس واحد، كما هو الحال هنا، فإن الدين هنا من النقود، ويباع بنقود من جنسه، فإن كان بالدولارات بيع بدولارات، وإن كان بالريالات بيع بريالات، وهكذا، فدخل ذلك في ربا الفضل، وهو غير جائز.

الأمر الثاني: أن المشتري لا يقبض الدين الذي اشتراه، إلا في يوم الاستحقاق، فلم يحصل التقابض، الذي هو شرط في الأموال الربوية إذا بيعت بما يتفق معها في علة الربا، فدخل ذلك في ربا النسيئة، وهو محرم بإجماع المسلمين.

الأمر الثالث: أن مشتري الإذن إنما يشتريه ليقبض قيمته الاسمية وقت الاستحقاق، وهذا يعني أنه لا يأخذ الدين الذي اشتراه فقط، بل يأخذ الزيادة الربوية التي تتمثل في الفرق بين الدين الفعلي (ثمن الإذن الذي دفعه المشتري) وبين القيمة الاسمية للإذن، وهذا غير جائز؛ لأنها زيادة لا يستحقها العاقد الأول؛ لكونها ربا محرماً، فإذا باعها فقد باع ما لا يملك، وهو محرم في شريعة الله.

وبهذا يكون تداول أذون الخزانة – بالنظر إلى واقع التعامل – محرماً شرعاً؛ لاشتمال عقود التداول على الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النسيئة.

المطلب الثاني: شهادات الإيداع القابلة للتداول:

سيتم الحديث عن شهادات الإيداع القابلة للتداول في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: التعريف بشهادات الإيداع القابلة للتداول:

شهادة الإيداع: ورقة مالية، تثبت أن لحاملها وديعة لدى المصرف، أو المؤسسة المالية التي أصدرتها بالقيمة الاسمية المدونة عليها.

وهي من أدوات الدين قصيرة الأجل، تصدرها البنوك التجارية؛ لغرض تشجيع المستثمرين على الإيداع لديها، ولذا فهي تصدر بقيم مختلفة، وآجال متفاوتة، لا تتجاوز السنة في الغالب.

وتحمل شهادات الإيداع قيمة اسمية محددة بمقدار الوديعة، وتاريخ استحقاق محدد، كما تحمل سعر فائدة، يمكن أن يكون ثابتاً، ويمكن أن يكون متغيراً، بحيث يحصل المودع في تاريخ الاستحقاق على القيمة الاسمية للشهادة، بالإضافة إلى الفائدة المتفق عليها.

ويتم إصدارها وتسويقها بأحد أسلوبين:

الأول: الإصدار العام، وذلك بدعوة الجمهور للاكتتاب فيها.

الثاني: الإصدار الخاص، وذلك بأن يتم إصدارها؛ بناء على طلب مسبق من قبل مجموعة من المودعين، بشروط متفق عليها بينهم وبين المصرف المصدر لها.

وتعد شهادات الإيداع من نوع الودائع لأجل؛ ولذا فإنه لا يحق لحاملها استرداد وديعته قبل تاريخ الاستحقاق، إلا أنها تتميز بقبولها للتداول في السوق الثانوية، فيمكن لحاملها بيعها والحصول على نقوده قبل موعد استحقاقها، مقابل التنازل عن جزء من العائد عليها (الفائدة).

الفرع الثاني: حكم إصدار شهادات الإيداع وتداولها:

أولاً: حكم إصدار شهادات الإيداع القابلة للتداول.

الودائع المصرفية – وبخاصة الودائع لأجل – في حقيقتها الشرعية قروض، وليست ودائع بالمعنى المعروف للوديعة؛ ذلك أن البنك مأذون له من قبل المودع – إما إذناً صريحاً، أو إذناً عرفياً – في التصرف في الوديعة لنفسه واستعمالها في نشاطه الخاص، بحيث تكون مضمونة عليه، ودينًا في ذمته، وذلك يقلب الوديعة إلى قرض؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.

وبناء على ذلك فإنه ينطبق على الودائع المصرفية الأحكام المقررة للقرض، ومن ذلك عدم جوازه بزيادة، وعليه فيحرم إصدار شهادات الإيداع القابلة للتداول؛ لأنها قرض بزيادة، وهو رباً.

ثانياً: حكم تداول شهادات الإيداع القابلة للتداول:

عندما يتم بيع شهادة الإيداع يحل المشتري محل المودع الأول، ويتقاضى الفائدة الربوية المقررة عند حلول أجلها، ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز بيعها، ولا شراؤها؛ لما بينته من أن الفائدة الربوية ليست حقًا للمودع الأول، ولا ملكًا له؛ لأنها رباً يجب فسخه ورده، فلا تكون حقًا لمن اشترى منه الدين أيضاً؛ لأنه يتلقى الملك عن البائع، والبائع غير مالك لها شرعاً، فضلاً عما في ذلك من محذور بيع الدين – وهو مال ربوي – بجنسه مع التفاضل وعدم التقابض، فيدخل ذلك في ربا النسيئة المجمع على تحريمه.

المطلب الثالث: القبول المصرفي.

سيتم الحديث عن القبول المصرفي في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: التعريف بالقبول المصرفي:

القبول المصرفي أداة مالية من أدوات السوق النقدية قصيرة الأجل، حيث تتراوح فترة استحقاقها بين شهر وتسعة أشهر، ويتحدد العائد عليها عن طريق الخصم من قيمتها الاسمية.

وهي تستخدم أداة للاقتراض، كما تستخدم أداة ائتمان في المعاملات التجارية الخارجية؛ لتمكين المستوردين من شراء البضائع التي يحتاجونها من الخارج بالأجل.

ويتمثل القبول المصرفي في توقيع أحد المصارف بالقبول، على كمبيالة مسحوبة عليه بدفع مبلغ معين من المال، من قبل مستورد أو مصدر، أو راغب في الاقتراض، وذلك عن طريق ختم الكمبيالة بكلمة مقبول.

ولذا فإنه يمكن تعريف القبول المصرفي بأنه: تعهد من قبل مصرف ما بدفع قيمة كمبيالة مسحوبة عليه، عن طريق ختمها بكلمة مقبول.

ويتضمن الاتفاق الذي بموجبه يوقع المصرف على الكمبيالة بالقبول أن يقوم العميل الذي تم التوقيع بناء على طلبه بإيداع قيمة الكمبيالة في حسابه لدى المصرف، قبل تاريخ الاستحقاق؛ حتى يتمكن من تسليمها لحامل الكمبيالة.

ومع ذلك فإن المصرف ملزم – بموجب تعهده المتمثل في توقيعه بالقبول – أن يدفع قيمة الكمبيالة لحاملها في تاريخ الاستحقاق، ولو لم يقم عميله بدفعها إليه.

ويأخذ المصرف في مقابل هذا التعهد أو الضمان عوضاً معلوماً.

الفرع الثاني: الحكم الفقهي للقبول المصرفي:

أولاً: حكم إصدار القبول المصرفي:

القبول المصرفي في حقيقته، شكل من أشكال الضمان، وصورة من صوره على القول المختار؛ ولذا فإن حكمه – من حيث الأصل – هو الجواز؛ إذ الضمان جائز، قد دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}( ٢٠)، أي: كفيل وضامن.

وأما من السنة فقوله ﷺ: «الزعيم غارم»( ٢١)، وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه – أن النبي ﷺ أتي بجنازة؛ ليصلي عليها، فقال: «هل عليه من دين؟» قالوا: نعم، قال: «صلوا على صاحبكم»، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: «هل عليه من دين؟» قالوا: لا، فصلى عليه، قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه( ٢٢).

وقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة.

غير أنه لما كان القبول المصرفي يستعمل – في بعض الأحوال – أداة للاقتراض، وكان الاقتراض بها – في العادة – يكون بالربا، حيث يقوم حامل الكمبيالة المقبولة بتقديمها إلى أحد المصارف ليقبض منه قيمتها قرضاً، بعد أن يخصم المصرف منها ما يمثل الفائدة على المبلغ المقترض، فإنه يحرم على المصرف إصدار هذا القبول، إذا علم أنه يستعمل لهذا الغرض؛ وذلك أن النبي ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء»( ٢٣)، فإذا كانت الشهادة على الربا محرمة، فضمانه محرم أيضاً من باب أولى؛ ووجه كونه أولى أن الشهادة وثيقة لا يمكن الاستيفاء منها، بخلاف الضمان فإنه مع كونه وثيقة، فإنه يمكن استيفاء الدين منها، فيكون أشد تحريماً من الشهادة، والله أعلم.

ثانياً: حكم أخذ العوض على القبول المصرفي:

اختلف الباحثون المعاصرون في ذلك على رأيين:

الرأي الأول: عدم جواز أخذ العوض على القبول المصرفي.

الرأي الثاني: جواز أخذ المصرف أجراً على القبول المصرفي.

والذي يظهر لي – والله أعلم – أنه لا يجوز أخذ العوض على القبول المصرفي؛ وذلك أنه لا يجوز أخذ العوض على الضمان بإجماع أهل العلم، كما حكاه ابن المنذر – رحمه الله – وغيره( ٢٤).

ولكن لما كان إصدار القبول المصرفي، وما يترتب عليه من قيام المصرف بسداد قيمة الكمبيالة للمستفيد نيابة عن العميل، يتطلب بعض المصاريف الإدارية؛ لما يقوم به المصرف من أعمال كتابية، ومراسلات، واتصالات، ونحو ذلك، فإنه يجوز – والحالة هذه – تحميل العميل تلك المصاريف، بحيث يقبض المصرف من العميل النفقات الفعلية التي أنفقها على إصدار القبول وما يترتب عليه؛ وذلك أن القبول وما يترتب عليه يتم لمصلحة العميل، فمن العدل أن يتحمل هو ما يتطلبه ذلك من نفقات؛ إذ الغرم بالغنم، كما أن هناك حاجة قائمة إلى القبول المصرفي؛ وذلك أن من يرغب في استيراد بضاعة من الخارج مثلاً، قد يتطلب ذلك منه إصدار كمبيالة مقبولة من أحد المصارف بقيمة البضاعة؛ ومعلوم أن المصارف تتحمل في سبيل ذلك بعض النفقات، فعدم تحميل العميل تلك النفقات يؤدي إلى إحجام المصارف عن الضمان المتمثل في إصدار القبول، وفي ذلك سد لباب من أبواب الإحسان، فضلاً عما في ذلك من التضييق على الناس في مصالحهم، وقد جاءت الشريعة بالتيسير ورفع الحرج.

وليس في ذلك جمع بين عقد تبرع وهو الضمان، وعقد معاوضة؛ وذلك أنه لا يجوز للمصرف أن يأخذ أجراً على الأعمال التي يقوم بها، حتى لا يكون في ذلك ذريعة لأخذ العوض على ما يحرم أخذ العوض عليه، وإنما يجوز له أن يحمل العميل المصاريف التي أنفقها فقط، وفرق بين ذلك وبين الأجر الذي يراد به الربح، ويزيد – في العادة – على ما أنفقه المصرف فعلاً.

إنتقل الى الباب الثاني